ايها العالم...توقف عن الضجيج لمحمد صالح بن عوانة



احتجت وقتًا طويلًا جدًا لأدرك أنني شخص مفرطُ الحساسيّة، احتجت صدماتٍ هائلة ومتلاحقة لأدرك أنني لست ما يتوقعه الآخرون منّي، احتجت أيضًا أن أبقى وحيدًا لأدرك بأنّ الوقت الذي كنت أهدره في دسّ رأسي في قناعات الآخرين عن الحياة كان وقتًا بلا قيمة تُذكر لشخصٍ مثلي، احتجت وقتًا طويلًا لأتقنَ وحدتي وأقبلها أيضًا بوصفها مكانًا جميلًا أهرب إليه، فضاءً بلا معالمَ محدّدة، أو ربّما كرسيًا أمام نافذةٍ موصدة، أو طاولة أختبئ تحتها من حينٍ لآخر، أو بابًا لأخرج منه إلى الشارع كما كنت أفعل وأنا طفل صغير يهرب من أقرانه إلى الرصيف المقابل، وفي الوقت الذي يطاردون فيه كرة القدم، كنت أنا، هو ذلك الطفل الذي يطارد أحلام يقظته، ويتصوّرها على شكلٍ فراشة تحطّ على كتفه، يبتسم لها، ثم ينفخ برفق عليها، برفق شديد، فتطير..
لم أستطع شرح نفسي، فوقعت في مأزق شروح طويلةٍ ومملةٍ عما يجب أن أفعله كي أكون شخصًا آخر: الحياة تمضي إلى الأمام وعليك أن تمضي معها، وأن تتعلّم كيف تقفز عندما يجب أن تقفز، وأن تركض عندما يجب أن تركض، وكلّ هذا الهراء الذي أسمعه وتسمعونه طوال الوقت عمّا يجعلك شخصًا فاعلًا وممكنًا وقابلًا للتميّز والتفوّق على الآخرين.
هل تعرف ما معنى أن تكون شخصًا مفرط الحساسية؟ العلم يقول أشياء كثيرة حول ذلك، ولكنّني أعرف أنني لوقت طويلٍ كنت عالقًا في حقيقة أنني لا أعرف بالضبط ما يجب علي أن أكونه، إذ كان من السهل أن أقع في الفخ: الحياة قاسية وعليك أن تجاريها، عليك أن تكون مقاتلًا دومًا، أنت جيّد هكذا ولكن تخلّص من حساسيتك، وفّر ما تحسّ به لما تكتب، ألا تلاحظُ كم قست عليك الحياة وأنتَ مازلت هشًّا، وبمحبةٍ أيضًا وقعت في الفخ عندما سمعت مراتٍ ومراتٍ النصيحة ذاتها: "أنت شخصٌ حساسٌ إلى درجةٍ مفرطةٍ تضرّ بك".
أين المشكلة؟!
ويمضي الوقت وأنت تبحث عنها خارج ما أنتَ عليه، خارج من أنتَ عليه في الحقيقة، تتناوب على جسدك ونفسك موجات الاكتئاب الحادّة، تركلك الخسارات، تتقاذفك أحكام الآخرين عليك، تُسقطك أكفّهم إلى وحل الخذلان، تغمركَ الأسئلة حولك أنتَ، أسئلة تطاردك بالإجابات الجاهزة عمّا يجب أن تفعله لتنهض، فتفشل، تختنق، يمتلئ فمك بالوحل، تغضب، ثم تحزن، ثم سيكون عليك أن تنتظر وقتًا طويلًا ليجفّ هذا الوحل ويتكسّر، فتنهض..
تكمن المشكلة في حقيقة أنّك وقعت فريسةً لما يتوقعه الآخرون منك، وعندما تكون رجلًا بحساسية مفرطة يصبح الأمر أشدّ صعوبةً وخطورةً في الوقت ذاته، ولاسيّما إذا كنت تعيش في مجتمعٍ مادّي يقيس رجولتك وإنسانيتك ومبادئك وحساسيتك أيضًا بمقاييس ماديّة؛ أنت ما تحرزه، أنت ما تحققه، أنت ما تكتسبه، أنت ما تقتنصه، أنت ما نريدك “بمحبة” أن تكون عليهِ، وأنت ما يجعل منك شخصًا يواكب إيقاع هذا العالم، أعني العالم بشكله المادّي المفرط والمبالغ فيه، والذي للأسف استسلمت له وقتًا طويلًا، واستسلم الكثير أيضًا لإغراءاته، الكثير الكثير..
كيف يمكن أن تكون شخصًا يحتاج إلى وحدته في الوقت الذي يجب أن تكون ما يحتاجه الآخرون منكَ؟ كيف تتعامل مع واقعٍ يقدّر مكاسبكَ بوصفها جزءًا من عملية استغلالك واستباحتك؟ كيف تكون أنتَ في الوقت الذي يخضعك بماديته لمقاييس تأخذ بعين الاعتبار ما تلبس وتأكل وتصادق وتضاجع والطريقة الّتي تسوّق فيها نفسك وكتاباتك وأفكارك. أنتَ جزءٌ من خطة تسويقٍ شاملةٍ لاتستثني تفصيلًا من يومك ولا تترك فكرة إلا وتدخّلت بها، كيف تسوّق نفسكَ؟ كيف تصبح ناجحًا أو كيف تصبح شيئًا بقيمة ماديّة معلومة، وكيف تصبح وسيلةً لتسويق أيّ شيء عندما تفشل! والأصعب الأصعب: كيف تنسجم مع هذا العالم الذي يقدّم حلولاً جاهزةً لكلّ شيء؟ أنت مكتئب؟ اذهب إلى معالج نفسي، خذ أدوية مضادة للاكتئاب، لكن هذا العالم لا يريدُ أن يسمع باكتئابكَ، أنت خلل في إيقاعه.
-هل هذا كلّ شيء؟
-لا..
سأكتب كثيرًا عمّا أفكّر به، عن تصوّراتي تجاه ما يحدث للأشخاص الذين يعانون من (الاكتئاب) مع تحفّظي الشديد على الاسم. سأكتب لا لأنني أريد أن أقول: إنني مكتئب، أيّها العالم، توقّف عن الضجيج!
أكتب لأنني أعرف تمامًا حقيقة أن يكون هناك شخص مفرط الحساسية ويجلده العالم بسياطٍ من تصوّراتٍ فارغةٍ عما يجب أن يكون عليه، رجلًا كان أم امرأة، وأنّ الكثير يخفون اكتئابهم خجلًا من عالمٍ يحاكمهم طوال الوقت على لحظات الضعف والهشاشة الّتي تصيب أرواحهم، وأنهم لوقت طويلٍ مثلي عالقون في تعريفات ساذجة وسطحية..
وسأكتب، لأنّ العالم لا يستقيم بما نتوقعه، بل بما نحن عليه بكلّ ما فيه من أخطاء ونكباتٍ ولحظاتٍ سعيدةٍ تستحق أن تُعاش، أكتب لأقول للجميع:
-من هو العالم إذا لم أكن أنا وأنتَ وهيَ وهو؟ ما هو العالم إذا لم يكن ما يحدث بيني وبينك؟

محمد صالح بن عوانة

تعليقات

المشاركات الشائعة